ورقة بحثية عن
التجربة النقدية طويلة الأمد في اليابان
·
مقدمه :
اليابان هى رابع أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات
المتحدة والصين وألمانيا، وذلك بعد ان كانت اليابان تحتل المركز الثالث حسب الناتج
المحلي الاجمالي لتلك الدول ومدى مساهمتها فى الاقتصاد العالمي، فأنه في نهاية عام
2023 تراجع اقتصاد اليابان إلى المركز الرابع في قائمة أكبر الاقتصاديات العالمية
لصالح الاقتصاد الألماني الذي سجل المركز الثالث، إذ بلغ حجم الناتج المحلي
الإجمالي لليابان 4.2 تريليون دولار، بينما سجل الاقتصاد الألماني 4.46 تريليون
دولار.
وتحتل اليابان المرتبة الأولى عالميا فيما يتعلق بصناعة
الإلكترونيات والتقنيات التكنولوجية، والمرتبة الثالثة في مجال صناعة السيارات، حيث
يتميز اقتصاد اليابان بفعاليته وتنافسيته في قطاعات التصدير ولكن الإنتاجية الاقتصادية
أقل في مجالات اخرى مثل الزراعة.
وقد واجه الاقتصاد الياباني ضغوطا انكماشية لعقود من الزمن،
حيث يتألف الاقتصاد الياباني من خليط متناقض من الازدهار والاستقرار والفشل خلال
العقود السابقة، بداية من الحرب العالمية وخروج اليابان منهزمة على يد الولايات
المتحدة، وما خلفته تلك الحرب من دمار شامل بالبنية التحتية وخسائر بشرية ضخمه
وانهيار اقتصادي كامل, واستطاعت اليابان ان تطوي تلك الصفحة سريعا وتتعافى من آثار
تلك الحرب فى فترة زمنية قصيرة من خلال تغيير أولوياتها الاقتصادية نحو الاستثمار
فى الصناعة وتكوين العلاقات التجارية وتشجيع الصادرات.
ثم كانت هناك فترة من الركود الاقتصادي بسبب ازمة ما اطلق عليها فقاعة أسعار الأصول في أواخر عام 1991
والتى بدأت بارتفاع أسعار الأراضي وواصلت ارتفاعها بين عامي 1988 و1990 لتشمل
مناطق واسعة من العاصمة والمدن المحلية، وفي اواخر عام 1990 انقلبت الأمور إلى
الأسوأ، حيث بدأت أسعار الأراضي بالتراجع، وبالنسبة للبنوك والمؤسسات المالية التي
منحت قروضا بضمان الأراضي، انخفضت قيمة الضمانات إلى ما دون قيمة القروض، ووجدت
الشركات التي لديها استثمارات بتلك المشروعات فجأة نفسها تعاني من صعوبات مالية فى
السداد، وبسبب ذلك أصبحت لدى البنوك قروضا متعثرة لا يمكن سدادها أو صعبة السداد
مما أدى الى انهيار القطاع المالي والمصرفي باليابان، حتى لجأت الحكومة الى التوسع
فى ضخ الاموال العامة الى المؤسسات المالية وادماج المؤسسات الخاسرة للخروج من تلك
الأزمة.
وبالفعل نما الاقتصاد الياباني وفقًا لقياس الناتج
المحلي الإجمالي بنسبة 1.14٪ سنويًا الى ان حدث الركود والكساد العالمي الكبير في عام 2008 بسبب ازمة
فقاعة الاصول بالولايات المتحدة المماثلة لأزمة اليابان ولكنها تلك المره اثرت على
اقتصادات دول العالم المختلفة لارتباطها القوي بقيمة عملة الولايات المتحدة، ثم
كان زلزال تسونامي 2011 ووباء كوفيد-19 في اليابان، وبالطبع كل ذلك اثر بشكل
سلبي كبير على الاقتصاد الياباني وحتى وقتنا الحالي يعاني الاقتصاد الياباني من
الضغوط الانكماشية التي تعرقل معدلات نموه .
·
مفهوم الانكماش الاقتصادي:
يشير مصطلح الانكماش الى زيادة المعروض من السلع
والخدمات مع انخفاض الطلب عليها، مما يسبب تراجع فى معدل النمو الاقتصادي وتراجع
الناتج المحلي الاجمالي، بسبب تراجع الايرادات والصادرات وارتفاع التكاليف
والواردات.
ولقد واجهت اليابان فترة طويلة من الانكماش الاقتصادي واتسم
هذا الانكماش بانخفاض الأسعار الذى بدا مفيدا في البداية، الا انه فى النهاية ادى إلى
انخفاض الإيرادات وبالتالي الإحجام عن الاستثمار والانفاق والاستهلاك، ونتيجة لذلك
أصيب الاقتصاد الياباني بالركود والانكماش.
·
السياسات الاقتصادية
لمواجهة الانكماش الاقتصادي :
كافحت اليابان من أجل توليد معدل ثابت من التضخم والنمو،
فمنذ عام 2013 اعلنت الحكومة اليابانية عن استراتيجية ذات نهج ثلاثي الأبعاد يجمع بين التوسع المالي والتيسير النقدي والإصلاح
الهيكلي، الذي تبناه رئيس الوزراء شينزو آبي لذا أطلق على هذه الاستراتيجية
"اقتصاد آبي"، للتغلب على تركيبة من المشاكل الاقتصادية تجمع
بين تباطؤ النمو وانخفاض التضخم، وتقوم هذه الاستراتيجية النقدية طويلة الآمد على:
1- تبني سياسة نقدية متساهلة للغاية من خلال خفض سعر فائدة،
مع إطلاق مشتريات واسعة النطاق من السندات
الحكومية الطويلة الأجل بعائد 0% بنهاية المدة، تلك السياسة النقدية
غير التقليدية وخاصة برنامج شراء الأصول الذي تبناه بنك اليابان تشكل جوهر سياسة
آبي الاقتصادية، فقد ضخ بنك اليابان السيولة في الاقتصاد وهي السياسة المعروفة
باسم (التيسير الكمي)، ودفع للمرة الأولى بعض أسعار الفائدة إلى المنطقة السلبية.
2- تعزيز
النمو الاقتصادي عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي على المشروعات العامة والبنية
التحتية.
3- زيادة ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 8% لمعالجة العجز
الهائل والديون المحلية المتنامية.
4- تعزيز
الطلب المحلي ونمو الناتج المحلي الإجمالي وتحقيق معدل مستهدف للتضخم هو 2%.
5- العمل على تطوير سوق العمل والمنتجات وتشجيع الاستثمارات
المحلية والاجنبية مع توسيع الشراكات التجارية.
·
استراتيجية
تطبيق بنك اليابان المركزي لسياسة التيسير الكمي النقدية وانعكاساتها على الاقتصاد
:
-
في عهد محافظ بنك
اليابان كورودا، نفذ البنك جولة أولى من التيسير الكمي في عام 2013، مما أدى إلى
مضاعفة ميزانيته العمومية.
-
ومع ركود التضخم عند
مستوى أقل من 1% في عام 2017، انتقل البنك إلى مرحلة ثانية مفتوحة من التيسير الكمي تتألف من 660 مليار دولار من عمليات شراء الأصول
السنوية والتي كان مخطط إنها ستستمر حتى تحقيق هدف التضخم البالغ 2%
-
وبالفعل تجاوزت قيمة
الأصول التي يحتفظ بها بنك اليابان 70% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه عملية
شراء ضخمه للغايه حيث أن أصول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي
الأوروبي تقل عن 25% من ناتجهما المحلي الإجمالي.
-
ومع بقاء الاقتصاد
الياباني ضعيفا وفى حالة انكماش، اتخذ بنك اليابان في يناير 2016 قرارا
غير متوقع بفرض أسعار فائدة سلبية في محاولة جديدة لتحفيز الإقراض
والاستثمار، وانضم بنك اليابان إلى البنوك المركزية في الاتحاد الأوروبي والدنمارك
والسويد وسويسرا باعتبارها البنوك الوحيدة التي دفعت بعض أسعار الفائدة إلى ما دون
"الحد الصفري"، واستمرت أسعار الفائدة السلبية لبنك اليابان المركزي بالاضافة الى عمليات بيع وشراء الأصول في عام
2018، مما دفع بعض خبراء الاقتصاد إلى التحذير من أن هذه الأسعار المنخفضة تلحق الضرر بالنظام المصرفي ويمكن أن تؤدي إلى
فقاعات مضاربة، وعلى الرغم من هذه المخاوف قرر بنك اليابان الاستمرار في تطبيق سعر
فائدة سلبي بنسبة -0.1%.
-
أدى تخفيف السياسة
النقدية من خلال خفض أسعار الفائدة إلى انخفاض حاد في قيمة عملة اليابان (الين) وتسبب
فى انخفاض سعر الصرف التنافسي للعملة امام العملات الاخرى، وقد أطلقت دول مصدرة
مثل ألمانيا والصين تحذيرات من اندلاع حرب عملات
عالمية من خلال خفض قيمة العملات على نحو تنافسي حيث تتنافس الدول على إضعاف
عملاتها من أجل تحقيق ميزة لزيادة صادراتها.
وبالفعل ادى ذلك الى رفع أرباح المصدرين
اليابانيين ولكن ليس إنتاجهم، و أدى ذلك ايضا إلى رفع أسعار الاستيراد وتقليص
الدخول الحقيقية لأغلب الأسر اليابانية.
-
ومع كل تلك التدابير
والاجراءات النقدية التى اتخذها بنك اليابان ظل الاقتصاد الياباني يعاني من حالة
الركود والانكماش.
· المؤشرات الاقتصادية لانكماش وركود اقتصاد اليابان:
على الرغم من حالة الاستقرار النسبي للاقتصاد الياباني
خلال السنوات الاخيرة ، يمكن الاستدلال على انكماش الاقتصاد اليابانى من خلال
مجموعة من المؤشرات المهمة التي يمكن توضيحها فيما يلي:
1- انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي، وذلك بسبب انخفاض
الطلب المحلي على السلع مما سبب انكماش وركود فى الاستهلاك.
2- ويرجع ذلك الركود الى ارتفاع معدلات التضخم حيث ارتفع معدل التضخم السنوي في عام 2023 الى 3.2%
بالمقارنة بـ2.5% في عام 2022، على الرغم من أنه من اقل معدلات التضخم عالميا، الا ان
ذلك اثر على النمو الاقتصادي باليابان بسبب انخفاض القوه الشرائية للرواتب مما ادى
الى انخفاض الاستهلاك الحكومي والأسر.
3- وعلى الرغم من انخفاض استهلاك الأسر إلا أن قدرتها على
الادخار تدهورت، حيث تُشير البيانات الصادرة عن مكتب مجلس الوزراء الياباني إلى أن
معدل ادخار الأسر سجل (0.2- %) في الربع الثالث من 2023، وهو ما يُمثل انخفاضًا
كبيرًا عن معدل الادخار في عام 2022 الذي سجل 7%، وذلك يرجع إلى الانخفاض الشديد
في معدلات الفائدة الرسمية داخل اليابان، إذ تظل عند نسبة (-0.1 %)، وهي نسبة
ضئيلة للغاية لا تجذب المدخرات المحلية.
4- انخفاض الاستثمارات المحلية والأجنبية لعدم وجود ارباح
حقيقية يمكن تحقيقها.
5- وبرغم اقتراب تكاليف الاقتراض من الصِفر الى ان الدين
الحكومي المحلي يتجاوز 230% من الناتج المحلي الإجمالي.
6- بالاضافة
الى تقلص نمو السكان وقوة العمل، وهو ما يعني ارتفاع نسب الدين في المستقبل.
ومما
تقدم، فأنه من المتوقع أن تستمر حالة التباطؤ في نمو الناتج
الإجمالي الحقيقي باليابان، في حالة عدم وجود محركات أساسية لتحقيق النمو.
تعليقات
إرسال تعليق
رأيك مهم